اشتُهرت عبارة «نوم العقل ينتج المسوخ»، للفنان الإسباني فرانشيسكو غويا (1746-1828)، وهي عنوان لوحته الشهيرة التي ظهرت عام 1799، والتي يمكن اعتبارها جانباً من مرحلته الفكرية الأقرب لقيم التنوير الكلاسيكية، فغياب العقل، والتفكير النقدي، يتيح ظهور أبشع الممارسات الاجتماعية والثقافية، ولذلك لا بد من «نقد الأوهام السخيفة، والممارسات الضارة في المجتمع البشري»، حسب تعبيره. وهذا كان موضوع سلسلة من اللوحات الهجائية النقديّة للمجتمع الإسباني، التي عُرفت باسم الكابريتشوس (الهواجس)، وأدّت لاصطدامه مع محاكم التفتيش، التي كانت ما تزال فعّالة في إسبانيا آنذاك. ربما لم يكن في حسبان غويا أنه سيشهد بعدها كثيراً من المسوخ، التي لم يتخيّلها وسط تفاؤله التنويري بالعقل. فالتنوير وصل فعلاً إلى إسبانيا عبر الجيوش النابليونية، وغرق البلد إثرها في «حرب شبه الجزيرة» (1808- 1814) وهي من أشد الحروب توحّشاً في تاريخ أوروبا، وكانت في جانب منها حرباً أهلية، وفي جانب آخر مقاومة للجيش الفرنسي الغازي والسلطات الموالية له، فضلاً عن تدخّل أجنبي من قوى دولية عديدة على رأسها بريطانيا. وشهدت بروز أحد النماذج المبكّرة لحرب العصابات ضد الاحتلال. رأى غويا بأم عينيه مآل قيم التنوير والإصلاح؛ وكذلك قيم المقاومة والتمسّك بالهوية والدين، التي تحوّلت إلى إعدامات ميدانية، وقتل جماعي، وتعذيب، واغتصاب، ومجاعة هائلة اجتاحت مدريد وغيرها من المناطق، وكان كل هذا صادماً له بشدة.
رسم غويا في البداية مجموعة من اللوحات بعنوان «أهوال الحرب»، صوّر فيها جرائم كل الأطراف، وانتقد الجيوش «التنويرية»، كما انتقد مقاوميها، وعودة الملكيّة الكاثوليكية المحافظة، وبدا أنه فقد الأمل بالشرط الإنساني نفسه، وليس فقط بالعقل. بعدها بدأ برسم «اللوحات السوداء»، منعزلا في منزله، مريضاً ومصاباً بالصمم. وهي رسوم جدارية، تعدّ من أكثر الأعمال كآبة وسوداوية في تاريخ الفن، ومن أشدها تأثيراً في الوقت نفسه، وفيها كثير من المسوخ. هل كانت كل تلك المسوخ بسبب غياب العقل أم حضوره؟
ليس غويا فناناً عابراً في تاريخ الفن، أو حتى تاريخ «العقل» نفسه، ففنه تأسيسي في الحداثة، كما في ما بعد الحداثة، وجسر من الفن الكلاسيكي إلى الفن الحداثي، ومن أوائل من أدخلوا الموضوعات السياسية والنفسية إلى الفن، وشهادته عن «العقل» شديد الأهمية لكل المفكرين الذين عاصروه، أو جاؤوا بعده. ما صوّره غويا ليس فقط خيبة أمل في التنوير، أو تمسّكاً بنقد الدين والمؤسسات التقليدية، بل انهيار عالم كامل، بكل بناه وقيمه وثقافاته ورموزه، دون وجود ما يمكن التمسّك به والتعويل عليه. هنا تصبح كل الممارسات والأداءات والأفكار، المستمدة من المخزون الثقافي والرمزي لذلك العالم، بلا معنى أو غاية، فتبدو أقرب لمسخ عن ذاتها، سواء كانت تنويرية أو تقليدية أو مُقاوِمة.
ليس المسخ استنساخاً للأصل، أو القيمة نفسها، بل تجسّدها بعد أن فقدت التوجّه والإطار، فلا يبقى منها إلا جانبها المرعب، الكابوسي، المثير للغثيان والاشمئزاز، الذي لا ينشر إلا الفوضى والدماء والألم. يخاف الإنسان من المسخ ليس لبشاعته أو تشوّهه فحسب، بل لأنه «الغريب المألوف»، حسب التعبير الفرويدي الشهير، أي لأنه يعبّر عما هو مألوف في ذاكرتنا وتجاربنا وبيئتنا الثقافية، يشبهه ويحيل إليه، ولكنه «يتكرر»، أو يعود للظهور، بشكل مثير للقلق والريبة، بسبب خروجه من سياقه، أو فقدانه لمعناه. المسخ يذكّرنا بأنفسنا أولاً، ويجسّد كل مخاوفنا من انحطاطها وتفسّخها، أو من بروز المكبوت والمسكوت عنه فيها. ربما فكّر غويا بشيء كهذا، وهو عجوز منعزل في منزله، الذي بات كله أشبه بقبوٍ معتم، فوقه تعبر المسوخ.
ربما انتصر التنوير في أوروبا في ما بعد، بالمعنى التاريخي الواسع، وحقق إنجازات عظيمة للبشرية، ولكن الصدمة التي عبّر عنها غويا بأكثر الطرق تأثيراً، وانتقاله من «الهواجس» إلى «الأهوال» إلى «السواد»، ظلّت في جينات ذلك الانتصار، وعادت للظهور في فترات متعددة. بعد الحرب العالمية الأولى مثلاً، وكذلك بعد الحرب الثانية، وعقب انهيار الامبراطوريات الاستعمارية التقليدية، وأثناء حرب فيتنام في أمريكا، وكذلك حرب العراق. وربما اليوم بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، التي أنهت الآمال «بقارة دون حرب»، والمقصود أوروبا، ودفعت عدداً من المفكرين، ومنهم يورغن هابرماس، الذي ظل متمسّكا بمشروع الحداثة، إلى التعبير عن تشاؤمهم وخيبة أملهم. إلا أنه يبقى هنالك امتياز للحداثة، وخطابها الفني والفلسفي عموماً، من غويا وحتى هابرماس، وهي قدرتها على رؤية وتمييز المسوخ، والتعبير عن الرعب منها بأكثر الطرق حدّة، حتى لو كانت تلك المسوخ من منتجاتها.
تصير المأساة مضاعفة عندما تعجز ثقافة ما عن رؤية وتمييز مسوخها. أي عملياً، عندما تعجز عن إدراك انهيارها على ذاتها، ومعنى، أو لا معنى، ذلك. يشير هذا بالتأكيد إلى منطقتنا، التي يبدو أنه من الصعب على نخبها، بكل تياراتها، الاعتراف بالانهيار بمعناه الأعمق، رغم أنها شهدت ما هو أبشع من «حرب شبه الجزيرة». قد يجادل البعض بأن منطقتنا مظلومة، وتتعرّض للعدوان الخارجي دائماً، ولكن هذا كان حال إسبانيا في مطلع القرن قبل الماضي: بلد ضعيف، بماضٍ امبراطوري، وثقافة «أصيلة»، يتعرّض للاحتلال والتدخّل الأجنبي، إلا أن هذا لم يمنع غويا، والمثقفين الذين يشبهونه، من رؤية المسوخ، في قلب عالمهم وثقافتهم، ولم يكتفوا بالشكوى والتذمّر من «العالم»، والمستعمر الأجنبي؛ أو اعتبار جرائم المقاومين والكنيسة مجرّد «رد فعل».
بعيداً عن الإنكار والتبرير، والخطاب الذي لا يقول شيئاً، والذي يطبع جانباً أساسياً من ثقافتنا المعاصرة، يمكن التساؤل عن الانهيار: ما الذي انهار فعلاً؟ ولماذا لا نشير إلى المسوخ الناتجة عنه؟ هل هي لا ترعبنا، رغم كل ممارساتها الدموية؟ وإذا كانت ترعبنا فلماذا الإنكار؟ وهل من سبيل للخلاص منها؟ أم ربما لا نستطيع أن نفعل أكثر من غويا: ننعزل في ما يشبه القبو، لنرسم لوحاتٍ سود؟
نوم العقل
قدرة الثقافة على رؤية المسوخ ليست امتيازاً أخلاقياً لها، بل آلية إدراكية ومنهجية، قادرة على التجريد، وتمييز الأطر المنتجة للمعنى، والنظر في المقدمات والنتائج، ونقدهما معاً. تُوفّر تلك الآلية الحساسية تجاه الكلمات، وما تحيل إليه من مفاهيم، وتجاه الأداءات، والتفاصيل، والجماليات. ولهذا فباستطاعتها الإحساس بالغرابة تجاه ما يفترض أنه مألوف، بديهي أو طبيعي، وإعادة قراءته من جديد، ووضع بداهته في موضع التساؤل. ربما هذا هو «العقل» الذي بنومه تستيقظ المسوخ، وهو قادر على نقد، بل حتى تفكيك وإعادة بناء نفسه، فيما المسوخ عاجزة عن ذلك. وقد يكون هذا أيضاً أحد معاني «الروح» بالمعنى الفلسفي الأعمق Geist، أي الوعي الذي يدرك ذاته، ويعيد تشكيل نفسه داخل العالم الاجتماعي والتاريخي والرمزي، الذي يعيش ضمنه، ويُسهم في إنتاجه وإعادة إنتاجه. وهو يظهر في مستويات فردية وجماعية ومؤسساتية، وينمو عبر فهم المعاني والتناقضات، ونقدها وتأويلها وتجاوزها، ما يُمكّن الإنسان من طرح الأسئلة، ونقد المعايير، وإعادة بناء المعنى. وقد يكون التعريف الأفضل للمسخ أنه «فاقد الروح»، أو بليد روحياً، لأنه غير قادر على طرح ذلك النوع من الأسئلة. بالطبع، طرح السؤال بحد ذاته لا يعني الخير أو السلم أو الحقيقة، فقد يرتكب أنصار «الروح» أبشع الجرائم التي يمكن تخيّلها، بناء على فهمهم لها، ولكن «الروح» نفسها هي ما يجعل إعادة طرح السؤال عن جرائمهم ممكناً، وهي قادرة على تجاوز نفسها نقدياً، بعد إدراك تناقضاتها. وكل هذا من معاني التنوير.
«البلادة الروحية» بهذا المعنى أزمة عميقة، يجب بحث أسبابها في التاريخ والمجتمع، لأنها قد تُطبٍّع وجود المسوخ، أو تبرره. والمسوخ في حالتنا ليسوا فقط مقاتلين دمويين في حروب أهلية وإقليمية؛ أو حشوداً بلا رحمة، تعتدي وتخرّب؛ أو حتى قرويين بسطاء يؤمنون بكل ما يقول لهم رجال دين متزمّتون وفاسدون، بل أيضاً لغة دارجة، خالية من المفهوم والمعنى، أقرب لتعاويذ؛ وعجزاً عن معالجة طبيعة ومصدر الحكم الأخلاقي؛ وفقراً شديداً في التساؤل عن الجميل وعلاقته، أو حتى عدم علاقته، بالحقيقي والأخلاقي والوجودي. كل هذا يجعل «المسخيّة» أقرب للوباء. الجميع، من داخل اللغة وإطارها الثقافي والرمزي، معرّض للإصابة به.
قد ترعبنا ممارسات المسوخ، ومشاهد الدم والقتل والتعذيب، ولكننا لا نمتلك الآلية الثقافية التي تمكننا من الإشارة إلى جذر المشكلة، فنضيع في أحاديث خاوية من المعنى، ويصبح وجود المسوخ اعتيادياً. لا يعودون «الغريب المألوف»، وإنما «المألوف» ذاته؛ ولا يثيرون مخاوفنا من الانحطاط والتحلّل والتشوّه، فقد بات كل هذا «نحن» بشكل من الأشكال. قد يحتاج الأمر إلى «لغة فوقيّة» Meta-language لفهم ما وصلنا إليه، وهي لا تعني لغة أجنبية أو لغة جديدة، بل لغة شارحة للغة، ليست للاستخدام والتداول الاعتيادي، بل لتعقّل المعاني الفعلية لذلك الاستخدام والتداول، وهذا قد يمكّننا من فهم كيف تطبّع لغتنا المعاصرة مع المسخيّة.
لا يعني هذا «الثقافوية»، وهي كلمة دارجة في الكتابة العربية المعاصرة، لا معنى جدّياً لها، ومن الكلمات التي يجب معالجتها بصرامة عبر «لغة فوقية»؛ كما أن الحديث عن «الروح» لا يعني بالضرورة المثالية الفلسفية Idealism، بل يمكن الحديث مطوّلاً عن البنى الاجتماعية – الاقتصادية، والأنثروبولوجيا، والصراع الطبقي، والتحرر الوطني، وأي ميدان آخر قد نجد فيه تفسيراً للحال الراهن، ولكن يبقى أن غياب الرعب، والتطبيع مع الحال الراهن، هو الذي يعرقل البحث الجدّي عن الأجوبة في أي ميدان كان، ويسمح بالركون إلى العبارات والأجوبة الجاهزة والمكررة. لا يوجد قلق وصدمة كافية يدفعان للسؤال المُلح، وهذا بالفعل مشكلة في «الروح»، التي تجعل البحث ممكناً. ربما لذلك لن تفكّر نخبنا بالنزول إلى القبو لرسم المسوخ، بل ستكون معها في الأعلى.
الانهيار على الذات
القول إن الحداثة أو التنوير مكّنا من طرح أسئلة نقديّة شديدة الصعوبة، تغيب عن ثقافتنا المعاصرة، لا يعني أننا لم نعرف التحديث، بل ربما العكس، مررنا بمراحل متعاقبة منه، إلا أنها على ما يبدو لم تنتج سوى مقاتلين، يشبهون أولئك المقاتلين الفرنسيين الذين رسمهم غويا، وهم ينفّذون الإعدامات الميدانية، دون أن تُنتج العين واليد القادرة على رسمهم بوصفهم أهوالاً. وهذا يجعل نمطنا من التحديث واحدياً، وحربياً، وأداتياً، إلى أبعد الحدود، وكأنه بدوره مسخ للتحديث.
قد يكون ما انهار على ذاته هو ذلك النمط من التحديث، الذي أنتج مفاهيمنا عن الأمة، والدولة، والمجتمع، والدين، والثقافة، والتاريخ، فربطها كلها بذات مظلومة ومتفوقة في الآن ذاته؛ يجب أن تحافظ على جسدها العضوي، وتستأصل كل «ورم» فيه؛ وتنهض كي تستعيد مكانتها، وتنتصر بمعاركها التاريخية. عرفت أمم عالمثالثية كثيرة طرح أسئلة ملحّة عن التخلّف والتبعيّة، ولكن الطرح المتكرر لسؤال «الهزيمة»، و»تأخّر المسلمين» وهم الذين يستحقون «أستاذية العالم»، وبالتالي أصحاب «رسالة خالدة» بشكل من الأشكال، أمر يسم تحديث المنطقة، ويمنحها جانبا أساسياً من «خصوصيتها»، دون أن يشمل أسئلة أكثر تعقيداً وتنوعاً، طرحتها حتى الفلسفات القومية، الشرقية والغربية، التي أرادت النهوض بأممها بعد هزيمة. مجال الأسئلة كان ضيّقاً جداً، ومنذ البداية.
اليوم صارت الأمّة أقرب لطائفة؛ والدولة أقرب لميليشيا؛ والشعب أقرب لجمهور غوغائي؛ والرواية التاريخية أقرب لـ»حكاية يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف، ولا تعني أي شيء» حسب تعبير شكسبير. كل هذه المسوخ ليست إعادة إنتاج للأمة القديمة نفسها، بل انهيار أنساقها وبناها وأطرها ومؤسستها، أي نمطها في التحضّر، مخلّفة وراءها خزّاناً أيديولوجياً كبيراً، حافلاً بالأفكار الحربيّة والعدوانية، يمكن لمن يشاء أن يستعمله، دون منهج أو سياق أو اتساق. مع مجموعة من المتداخلين في الشأن العام، الذين يبررون كل هذا، باعتباره «ثقافة الناس»، ونتيجة طبيعة وبديهية لـ»المظلومية» أو «التهميش» أو «الكولونيالية» أو أي مفردة دارجة أخرى. وكأن كونه نتيجة يعني القبول به، أو عدم التصدي له.
هل يمكن الخلاص من كل هذا؟ ربما كانت الإجابة عبر توقّع سياسي أو اجتماعي ما شديدة العبثية، ولكن يمكن القول إن هناك من يتعرّضون لتهديد وجودي، وسط كل هذا الانهيار؛ ولدمار كامل لعالمهم الاجتماعي والثقافي، دون القدرة على تعويضه أو إعادة إنتاجه؛ ولفقدان الثقة والمعنى في أي قول ممكن ضمن اللغة السائدة. ربما سيجبرهم هذا على الخروج من «البلادة الروحية»، والتفكير بآفاق جديدة. لا يعني هذا النجاة بالضرورة، ولكنه على الأقل قد يمكّن من الإشارة إلى المسوخ، والتعبير عنها، وهذه شهادة تاريخية وفكرية مهمة، إن لم تنفع اليوم، فقد تكون مفيدة لأجيال أخرى، تساعدها على النجاة، وعدم التطبيع مع الحال المسخي.
كاتب سوري
