لا يختلف اثنان اليوم في موريتانيا على وجود فساد مالي مستشرٍ، تمتد جذوره إلى مراحل مبكرة من عمر الدولة الوطنية، وتحديدًا مع بداية ما يعرف بـ"حرب الصحراء" سنة 1975، حين دخلت صفقات الأسلحة والنقل الحربي والتموين دهاليز المحاباة، والعمولات، والإثراء غير المشروع. تروي بعض الأوساط المقربة من نظام المختار ولد داداه أن محاولة التصدي لمافيا الفساد كانت من بين العوامل التي عجلت بإسقاط نظامه سنة 1978.
ومنذ بداية التسعينيات، ومع الانفتاح السياسي، أصبح الفساد أكثر "مأسسة"، حيث تواصل في الخفاء رغم جهود السلطات في الإصلاح، مما جعل المواطن يتشكك في جدوى السياسات العقابية التقليدية.
*1. الدولة الهشة وحدود العقوبة*
من الثوابت في الفقه القانوني أن الجريمة عامة ومجردة، أي أن القانون لا يميز بين الجناة بسبب انتماءاتهم أو حساسياتهم. غير أن واقع الدول الهشة، التي تتعدد فيها البنى الاجتماعية وتنتشر فيها التابوهات، يفرض تعقيدات عملية: فبعض الملفات إذا فتحت، قد تؤدي إلى شرخ اجتماعي، أو فتنة، قد تكون أكبر ضررًا من الفساد ذاته.
وهنا يتقاطع القانون مع فقه الموازنات الشرعية الذي يراعي المصلحة العامة ويدفع أعظم المفسدتين.
*2. التابوهات أقوى من النصوص*
في مجتمع قبَلي كالمجتمع الموريتاني، لا تزال الولاءات الأولية – من قبيلة وشريحة وجهة و مراكز قوى – تسبق الولاء للدولة. وهو ما يجعل التعرض لبعض "الرموز" أو "المكونات" الحساسة، ولو بتهم موثقة، محفوفًا بالمخاطر.
لقد أصبح الفساد، رغم فداحته، أهون من زعزعة الاستقرار الاجتماعي في نظر صناع القرار، خصوصًا حين يتقاطع مع تلك التابوهات.
*3. الاستدعاء الفقهي للتاريخ الإسلامي*
حين يُستدعى التاريخ، يُستشهد غالبًا بموقف كبار الصحابة من قضية مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث فضلوا تأجيل القصاص مخافة الفتنة، رغم وضوح الجريمة. فقد أدركوا أن تطبيق العقوبة في ظرف غير مواتٍ، قد يؤدي إلى تفتت الأمة، وهو ما حدث لاحقًا.
هذا الاستدعاء لا يهدف لتبرير الإفلات من العقاب، بل لتسليط الضوء على مبدأ جوهري: *العقوبة تُقدر بقدرها، زمانًا ومآلًا*.
*4. هل نُجمّد المحاسبة؟*
لا يعني هذا الطرح المطالبة بإغلاق ملف الفساد أو التعايش معه كقدر مفروض، وإنما يقتضي ترشيد آلية المواجهة. فالمحاسبة ليست مرادفًا دائمًا للعقوبة، بل قد تأخذ أشكالًا بديلة كما في:
- آلية المصالحة المالية المشروطة برد المال العام.
- الرقابة الاستباقية على الصفقات.
- النشر العلني للتقارير المالية.
- إعادة هيكلة المنظومة القانونية لمواءمتها مع الواقع المحلي.
*خاتمة*
بين *ضرورة العقوبة* و*خطر الفتنة*، يقف صانع القرار في الدولة الهشة على حافة دقيقة من التقدير. إن القاعدة القانونية تقول إن الجريمة عامة ومجردة، لكنها لا تنكر أن *التطبيق الذكي للقانون* في ظل الواقع الاجتماعي المتشابك هو الحل الأمثل، لا بإفلات المفسدين من المحاسبة، بل بتوظيف فقه المآلات، لحماية الدولة من الانهيار، والمجتمع من التصدع.
وما بين التشريع والمصلحة، تبقى الحكمة هي الركن الركين في أي حرب على الفساد.
بقلم السالك ولد اباه المحامى
